الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها و مختتمها، و عامة الآيات الواقعة فيها، و الأحكام و المواعظ و القصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، و التحذير البالغ عن نقضها و عدم الاعتناء بأمرها، و أن عادته تعالى جرت بالرحمة و التسهيل و التخفيف على من اتقى و آمن ثم اتقى و أحسن و التشديد على من بغى و اعتدى و طغا بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة، و تعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
و لذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود و القصاص، و على مثل قصة المائدة، و سؤال المسيح، و قصة ابني آدم، و على الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل و نقضهم المواثيق المأخوذة منهم، و على كثير من الآيات التي يمتن الله تعالى فيها على الناس بأمور كإكمال الدين، و إتمام النعمة، و إحلال الطيبات، و تشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج و العسر.
و هذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أواخر أيام حياته و قد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، و المناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده و للتثبت فيها.
قوله تعالى.
«يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» العقود جمع عقد و هو شد أحد شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله، و لازمه التزام أحدهما الآخر، و عدم انفكاكه عنه، و قد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم و الالتزام فيها.
و لما كان العقد - و هو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العبادية و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء، و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.
و بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع و النكاح و العهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.
و كذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة و المؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، و هذا هو الحلف الدائر بينهم.
و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة و الإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ.
على أن ظاهر الجمع المحلى باللام و إطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد و حكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.
كلام في معنى العقد
يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: «أوفوا بالعقود» على الأمر بالوفاء بالعقود، و هو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء.
و العقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، و ليس للبائع بعد العقد ملك و لا تصرف، و كعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، و ليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، و كالعهد الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده و ليس له أن ينقضه.
و قد أكد القرآن في الوفاء بالعقد و العهد جميع معانيه و في جميع معانيه و في جميع مصاديقه و شدد فيه كل التشديد، و ذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، و أوعدهم إيعادا عنيفا و مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
و قد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية، و هو كذلك.
و ليس ذلك إلا لأن العهد و الوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا، و الفرد و المجتمع في ذلك سيان، و إنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها و جميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام و العقود و العهود الفرعية التي تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا و لا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي و إن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، و لو صح للإنسان أن ينقض ما عقده و عهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، و هو الركن الذي يلوذ به و يأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام و الاستثمار.
و لذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد و الوفاء به قال تعالى: «و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا»: إسراء: 34 و الآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد و الذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم و قوم و أمة و أمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم و البلية في نقضه أعم.
و لذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده و أهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول و أوضح البيان قال تعالى: «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله مخزي الكافرين و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله فإن تبتم فهو خير لكم و إن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله و بشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد»: براءة: 5 و الآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة و قد أذل الله رقاب المشركين، و أفنى قوتهم و أذهب شوكتهم، و هي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها و ظهروا عليها من قذارة الشرك، و تهدر دماء المشركين من دون أي قيد و شرط إلا أن يؤمنوا، و مع ذلك تستثني قوما من المشركين بينهم و بين المسلمين عهد عدم التعرض، و لا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا و استذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع و لا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد و مراعاة لجانب التقوى.
نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه و يتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: «كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة و أولئك هم المعتدون فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين و نفصل الآيات لقوم يعلمون و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون»: براءة: 12، و قال تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله»: البقرة: 149، و قال تعالى: «و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله»: المائدة: 2.
و جملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد و وجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم و أوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه و الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام و الاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.
و لعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها و التحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع الإنساني إلا على أساسه و إماطة مظلمة الاستخدام و الاستثمار، و قد صرح به الكتاب العزيز و سار به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته الشريفة، و لو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة و السلام في ذلك، و عليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته و تاريخ حياته.
و إذا قايست بين ما جرت عليه سنة الإسلام من احترام العهد و ما جرت عليه سنن الأمم المتمدنة و غير المتمدنة و لا سيما ما نسمعه و نشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم و معاقداتهم و حفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم و نقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق و خدمة الحقيقة.
و من الحري بالدين ذاك و بسننهم ذلك فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان و في رعايته منافع المجتمع، و منطق يقول: إن منافع الأمة تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت و إن دحضت الحق، و أول المنطقين منطق الدين، و ثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية و الديموقراطية و الشيوعية و غيرها.
و قد عرفت مع ذلك أن الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بني عليه بناء و يوصي برعايته و لهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم» إلخ الإحلال هو الإباحة و البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر و البحر على ما في المجمع، و على هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الإنسان و جنس الحيوان، و قيل: البهيمة جنين الأنعام، و عليه فالإضافة لامية.
و كيف كان فقوله «أحلت لكم بهيمة الأنعام» أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، و قوله «إلا ما يتلى عليكم» إشارة إلى ما سيأتي من قوله: «حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به» الآية.
و قوله «غير محلي الصيد و أنتم حرم» حال من ضمير الخطاب في قوله «أحلت لكم» و مفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الإحرام، كالوحشي من الظباء و البقرة و الحمر إذا صيدت، و ربما قيل: إنه حال من قوله «أوفوا» أو حال من ضمير الخطاب في قوله «يتلى عليكم» و الصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدي و لا القلائد و لا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا» خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
و الإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة و المنزلة، و يتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها و تركها، و إحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته و القتال فيه، و هكذا.
و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و كان المراد بها أعلام الحج و مناسكه.
و الشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية و هي: المحرم و رجب و ذو القعدة و ذو الحجة.
و الهدي ما يساق للحج من الغنم و البقر و الإبل.
و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل و نحوه ليعلم أنه هدي للحج فلا يتعرض له.
و الآمين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، و المراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام.
و قوله «يبتغون فضلا»، حال من «آمين» و الفضل هو المال، أو الربح المالي فقد أطلق عليه في قوله تعالى «فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء»: آل عمران: 147 و غير ذلك أو هو الأجر الأخروي أو الأعم من المال و الأجر.
و قد اختلفوا في تفسير الشعائر و القلائد و غيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى، و الذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، و لا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.
قوله تعالى: «و إذا حللتم فاصطادوا» أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، و الحل و الإحلال - مجردا و مزيدا فيه - بمعنى و هو الخروج من الإحرام.
قوله تعالى: «و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا» يقال: جرمه يجرمه أي حمله، و منه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها، و للعقوبة المالية و غيرها لأنها محمولة على المجرم.
و ذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع.
و الشنآن العداوة و البغض.
و قوله «أن صدوكم» أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، و محصل معنى الآية: و لا يحملنكم عداوة قوم و هو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم.
قوله تعالى: «و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان» المعنى واضح، و هذا أساس السنة الإسلامية، و قد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالإيمان و الإحسان في العبادات و المعاملات، كما مر في قوله تعالى: «و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر» الآية: البقرة: 177 و قد تقدم الكلام فيه.
و التقوى مراقبة أمر الله و نهيه، فيعود معنى التعاون على البر و التقوى إلى الاجتماع على الإيمان و العمل الصالح على أساس تقوى الله، و هو الصلاح و التقوى الاجتماعيان، و يقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيىء المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة، و على العدوان و هو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم و قد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا اصبروا و صابروا و رابطوا» الآية: آل عمران: 200 في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم و العدوان بقوله: «و اتقوا الله إن الله شديد العقاب» و هو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: «حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به» هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام و النحل و هما مكيتان، و سورة البقرة و هي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن ربك غفور رحيم»: الأنعام: 154 و قال تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم»: البقرة: 137.
و الآيات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية و تماثل الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم» فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها و بين تلك مؤكدة لتلك الآيات.
بل النهي عنها و خاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الأنعام و النحل المكيتين، فإن آية الأنعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، و قد قال تعالى في سورة المدثر - و هي من السور النازلة في أول البعثة -: «و الرجز فاهجر»: المدثر: 5.
و كذلك ما عده تعالى بقوله «و المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع» جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله «إلا ما ذكيتم» فإنما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة و مزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث.
يتبع...